ما بدأ كنكتة عابرة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، سرعان ما تحوّل إلى نقاش شبه جاد على جانبي الحدود، لكن ليس بسبب وجاهة الاقتراح، بل بسبب الذعر وردود الفعل المبالغ فيها من بعض المثقفين والسياسيين والإعلاميين الكنديين، الذين أخذوا الأمر بجدية مفرطة لم يكن لها أي داعٍ من الأساس.
بينما كان ترامب يُواجه ضغوطًا متزايدة داخلية وخارجية، وجد نفسه مضطرًا للمضي قدمًا في هذه النكتة التي أطلقها — ربما لصرف الأنظار عن مشاكله السياسية — لكن الغريب أن فئة من الكنديين لم تتجاوز الأمر، بل تحوّلت النكتة إلى أداة سياسية بيد بعض الساسة الذين سعوا لاستثمار “الخوف من ترامب”، و”الخوف من الرسوم الجمركية”، و”الخوف من فكرة أن تصبح كندا الولاية رقم 51″، كورقة انتخابية يحركون بها مشاعر الناخبين.
ما بدأ كنكتة عابرة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، سرعان ما تحوّل إلى نقاش شبه جاد على جانبي الحدود، لكن ليس بسبب وجاهة الاقتراح، بل بسبب الذعر وردود الفعل المبالغ فيها من بعض المثقفين والسياسيين والإعلاميين الكنديين، الذين أخذوا الأمر بجدية مفرطة لم يكن لها أي داعٍ من الأساس.
بينما كان ترامب يُواجه ضغوطًا متزايدة داخلية وخارجية، وجد نفسه مضطرًا للمضي قدمًا في هذه النكتة التي أطلقها — ربما لصرف الأنظار عن مشاكله السياسية — لكن الغريب أن فئة من الكنديين لم تتجاوز الأمر، بل تحوّلت النكتة إلى أداة سياسية بيد بعض الساسة الذين سعوا لاستثمار “الخوف من ترامب”، و”الخوف من الرسوم الجمركية”، و”الخوف من فكرة أن تصبح كندا الولاية رقم 51″، كورقة انتخابية يحركون بها مشاعر الناخبين.
لكن دعونا نضع الأمور في نصابها الصحيح، ونسوق بعض الحقائق الدستورية والسياسية التي تُسقط هذا المقترح في خانة “المستحيل والمثير للضحك والمشتت للانتباه” — فكرة لا تستحق حتى النقاش الجاد.
الواقع الدستوري يُسقط الفكرة من جذورها
أولاً، تشترك كندا والولايات المتحدة في احترام مبدأ “سيادة القانون”، ويعني هذا أن أي تغير جذري في كيانهما السياسي لا بد أن يمر من بوابة الدساتير — وليس من تصريحات عشوائية أو نكتة غير موفقة.
في الولايات المتحدة: دستورها ينص في المادة الرابعة، القسم الثالث، البند الأول، على أن قبول أية ولاية جديدة في الاتحاد يتطلب موافقة الكونغرس الأميركي. نعم، يمكن للرئيس أن يقترح أو يعرقل هذا التوجه، لكن القرار النهائي يبقى بيد الكونغرس.
وفي حال قرر الكونغرس السير في هذا الطريق، فإن الخطوة التالية عادة ما تكون إصدار “قانون تمكيني” يحدد شروط الانضمام، أهمها:
موافقة أغلبية سكان الإقليم المرشح للانضمام من خلال استفتاء حر.
التزام هذا الإقليم بنظام حكم جمهوري — وهو ما لا ينطبق على كندا أصلًا.
أما في كندا، فالأمر أعقد بكثير. كندا ليست جمهورية بل مملكة دستورية ذات نظام برلماني، تتكون من عشر مقاطعات وثلاثة أقاليم. المقاطعات الكندية تتمتع بسلطات واسعة — ربما أوسع بكثير من مثيلاتها في الولايات الأميركية — تشمل التعليم، الصحة، الحكم المحلي، وحتى ملكية الموارد الطبيعية.
وبينما تُقاوم المقاطعات الكندية التنازل عن هذه الصلاحيات للحكومة الفيدرالية الكندية نفسها، فهل يُعقل أن تتنازل عنها لصالح حكومة واشنطن؟ الجواب: قطعًا لا.
السيناريو العبثي لانضمام كندا
لكي تصبح كندا “الولاية رقم 51″، لا بد من سلسلة من الإجراءات المستحيلة عمليًا:
أولاً، يجب أن يجري استفتاء وطني أو إقليمي يحصل فيه المقترح على تأييد شعبي — وهو أمر مستبعد تمامًا، إذ سيتعامل معه معظم الكنديين كمزحة سخيفة تستنزف الوقت والجهد.
ثانيًا، يجب أن تُعدّل كندا دستورها بشكل جذري، وهو أمر شبه مستحيل بسبب صعوبة تغيير النصوص الدستورية الكندية.
ثالثًا، لا يوجد أي اهتمام أو رغبة سياسية داخل الكونغرس الأميركي في ضم كندا — لا رسميًا ولا ضمنيًا.
ببساطة، المقترح لا يملك مقومات الحياة لا على الجانب الكندي ولا الأميركي، وهو بذلك يسقط تلقائيًا.
الفكرة تكشف الجهل الأميركي… والارتباك الكندي
ورغم أن نكتة ترامب لم تكن أكثر من محاولة ساخرة، فإن رد الفعل الكندي المبالغ فيه يكشف عن عدة أمور مثيرة للتأمل:
من الجانب الأميركي: هناك جهل واسع حول كندا. كثيرون لا يدركون أن كندا أكبر من الولايات المتحدة نفسها من حيث المساحة، وأنها ليست مجرد جزيرة مثل هاواي التي ضُمت في القرن التاسع عشر. فمقارنة كندا بحجمها الجغرافي، ومواردها، وهيكلها السياسي، تجعل فكرة “الضم” أقرب لابتلاع حوت عملاق لا يمكن هضمه.
كندا ليست فقط دولة شاسعة تضم عشر مقاطعات وثلاثة أقاليم — بعضها أكبر من ولاية تكساس — بل إن انضمام كل مقاطعة كولاية سيُدخل 20 سيناتورًا جديدًا لمجلس الشيوخ الأميركي، مما سيُغيّر التوازن السياسي هناك بالكامل، وهو ما لا يرغب به أي سياسي أميركي عقلاني.
كندا: قوة مستقلة ومؤثرة في القارة
دعونا لا ننسى بعض الحقائق التي تبرز قوة كندا:
تمتلك واحدة من أكبر احتياطات الموارد الطبيعية في العالم: المياه، النفط، الغاز، الطاقة الكهرومائية، واليورانيوم.
تحيطها ثلاثة محيطات، وتملك أطول خط ساحلي في العالم، أي أكثر من الخط الساحلي الأميركي بنسبة 150%.
لها تاريخ سياسي فريد، حيث لم تخض ثورة أو حربًا أهلية، ولم تُشن حروب إبادة ضد الشعوب الأصلية بنفس الحدة التي حدثت في دول أخرى.
خاضت الحربين العالميتين قبل الولايات المتحدة، وأثبتت ولاءها للقيم الغربية في أحلك الأوقات.
ولكن.. ماذا عن الكنديين أنفسهم؟
رغم كل هذه الإيجابيات، فإن الفكرة كشفت كذلك عن أزمة داخلية لدى الكنديين — أزمة هوية، وأزمة فخر وطني.
عدد متزايد من الكنديين، خاصة الشباب، لديهم صورة سلبية عن بلادهم، ويُقيّمون مستقبلها بتشاؤم.
الكنديون الجدد، الذين وفدوا إلى البلاد خلال السنوات التسع الماضية، لم يتلقوا تعليمًا كافيًا عن تاريخ كندا وتقاليدها، ولا يشعرون بانتماء قوي لها.
هناك من لا يعرف كيف يعرّف نفسه ككندي إلا بالقول: “أنا لست أميركيًا”.
الكنديون لا يرفعون أعلامهم، ولا يستهلكون منتجات بلادهم، إلا كرد فعل استفزازي على تصريح أميركي!
والأخطر أن بعضهم يُفضّل أن يختار رئيس الولايات المتحدة رئيس وزرائهم القادم، فقط لأنه “الأكثر جاذبية” في أعين واشنطن، لا لكونه الأفضل لقيادة كندا فعليًا.
الخوف كسلاح سياسي
في السنوات الأخيرة، أُسيء استخدام سياسة “الخوف” في كندا — من الجائحة، ومن تغير المناخ، والآن: من ترامب والولاية رقم 51. كل ذلك من أجل كسب تأييد شعبي لحزب حاكم وسياساته.
لكن الحقيقة واضحة:
لا مبرر لهذا الخوف. لا جدوى من هذا النقاش. لا فرصة لتنفيذه.
اقتراح “الولاية رقم 51” فكرة عبثية، لا تنتمي لعالم السياسة الواقعية، ولا ينبغي استخدامها لتخويف الكنديين أو التلاعب بهم سياسيًا. إنها نكتة، وينبغي أن تبقى كذلك — لا أكثر.
ماري جندي
المزيد
1