يحكي أن مدرسة ارادت اختبار تلميذ، فوضعت في حقيبته ثلاث تفاحات، ثم سألته عن عددهم فأجاب: أربعة. فطلبت منه التركيز ومعاودة الرد، فأجاب بنفس الرقم، فكررت السؤال مراراً وهو مصمم على أربعة. فجاءت بثلاث برتقالات وطلبت منه وضعهم في حقيبته ثم سألته عن عددهم فأجاب ثلاثة، فأعادت المسألة بالتفاح فقال أربعة، فثارت، لما؟
فأجابها: كان معي تفاحة في حقيبتي وضعتها لي أمي في الصباح وهي تحضر لي الفطور، وحينما أضفتي لي الثلاث تفاحات، صاروا أربعة.
والمغزى أنه من الصعب اصدار صائب الأحكام حال عدم المامنا بخفايا الأوضاع.
وذات الأمر ينطبق حينما يجلد المجتمع الأبناء بسوط على رقابهم برميهم بالعقوق دون معرفة خبايا ظروفهم و ذرائعهم مع ذويهم.
فالاعتقاد بقدسية الأباء – دون استثناء- استناداً للمقدس، يجانبه الصواب كما يخالف العدل والمنطق والدين، كونه يساء استغلاله من عقول تنصيصية اختزلت المقدس لخدمة أغراضهم ونست قولة عمر حين شكا له أب من عقوق ابنه، فتقصى عمر عن أحوال الابن،ثم وبخ والده : “لقد عققت ابنك قبل أن يعقك”.
..
-وأبدًا لن أمل القول أن عتبات المساجد ودور الأيتام وقارعة الطرقات بل وحاويات القمامة شاهدة على اللألآف من حالات إلقاء الأباء لأبنائهم، صغارهم كما وأجنتهم بحاويات المهملات.
-على أن عقوق الأباء الناس العزاز للأبناء ليس قاصراً على أبناء السفاح، فالتغرير بمصالح أبناء الحلال لإتمام زيجات مربحة ولو كان العريس مسناً أو سيتزوج لتوقيت محدد بإطار صفقة مقابل أجرة .. أليس هذا بكافٍ لوجود حالات عقوق أباء للأبناء؟
-كذلك، فإن التقوت بشرف الأبناء متفشي في مجتمعاتنا سواء بين العائلات الفقيرة التي تبيع بناتها للأثرياء، أو بين الأغنياء الذين يعقدون الصفقات مقابل شراكة أو تعضيد ملكيات أو توسيع رقعة أرض أو خشية انتقال الإرث لغير ذوي العصب.
إن عقوق الأباء والأمهات لأبنائهم قضية مسكوت عنها رغم تفشيها.
-واكم من أسر مات الوالد فأخذت الأم بناتها من أيديهن واجبرتهن على توقيع توكيلات شاملة للأخ الأكبر.
– واكم من أب ضغط على وليده لإجباره على دراسة الطب عوضاً عن حلم ابنه في العمل بالهندسة، ليضمن انتقال عياداته لأبنائه، أو مهندس منع ابنه من حلم الطب ليخلفه في شركته وإلا اعلان العقوق والتجريس والإقصاء.
-وأكم من عم جرس أولاد اخيه المتوفي رغبة في تقليب العائلة ضده لمجرد انه لم ينصاع لتوريطه في معاداة اشخاص بعينهم.
-وكم من أم سلطت أحد أبناءها في البيت ومكنته وجعلته الحاكم بأمره ومررت إهاناته لسائر إخوته وغضت الطرف عنها وكأن لم تكن، فتفاقمت مشاعر الظلم لدى الأبناء حتى تملكتهم مشاعر الخوف والحذر من معاودة المهانة، فهجروا البيت وهو ملجأهم الوحيد هرباً من سوء المعاملة والتسلط، ثم راحت تشتكي عقوق أبناءها وعدم زيارتهم لها.وصارت استاذ كرسي في تمثيل دور الأم المنكسرة.
-كم من والدين أفشوا أسرار أبنائهم وجعلوهم أحاديث، :”على فكرة، زوج اختك أصيببالسرطان لكن مخبيين، واخوك انفصل عن زوجته لكن حلفوني أن أصمت، وبن خالتك نزل من السفر لكن فاصل شحن وموصيني ما حدا يعرف”.
ثم :” هل هذهآخرتها يا أولاد، تمنعوا عني أخباركموكأني غريبة. وماذا عن تضحياتي”.
-عقوق “الأباء العزاز” موجود لكن مسكوت عنه ويعامل كاللمم .. حينيمعنون في التضليل بالمشورة في زيجة غير متكافئة فقط لإزاحة المسؤوليات عن كاهلهم .. أو للضغط على الأبناء لاستمرار تجرع المعاناة مع شريك ظالم بحجة “كله علشان خاطر مصلحة شوشو”.
رغم ان هذا الموقف المتخاذل يرجع اصالة لخشيتهم في مساعدة الضحية وتحمل الأعباء معها.
-عقوق الناس العزاز متفشي في صعيد مصرحيث تحُرم الإناث من ميراثهن من عقارات او أراضي ولا يجرؤ ابن من الذكور على المطالبة بحقه في مصاغ والدته وإلا التجريس وربما التبرؤ منه مهما كانت الإبنة في أمس الحاجة لميراثها أو حتى لو اضطر الإبن للإقتراض من الأغراب.
-عقوق الأباء للأبناء منتشر سيما في حالات سفاح ذوي القربي حينما تتكتم الأم جريمة مغتصب صغيرتها،كون المغتصب من قرابتها كي لا تفضحه أمام زوجها وكي لا تُتهم بالتخاذل والإهمال في رعاية أبنائها، ولتحافظ على الصورة التي رسمتها أمام زوجها أن أسرتها أفضل من أسرته.. ولو ضحت بحقوق ونفسية أكبادها.. بل قد تهادن المغتضب وتقترض من أمواله وتستفيد منه وتتستر على جرائمه وشنائعه كما قد توكله رسميا بأوراق تخول له الحق في التصرف في أملاكها وتكبرهوتتزاورمعه، ترحب به وتطبع معه وتجعل ابنتها المغتصبة تناديه ب” انكل أوعمو”، ثم لا تتورع بعد ذلك من التشدق بترنيمة العقوق والحقوق! أي فحش هذا.
-عقوق الأباء للأبناء متفشي سيما حين يلمس الأبناء من ذويهم حرصاً في مجاملة الاغراب ومحاباتهم على حسابهم، محض حول عاطفي من جانب يصيب الأهل، فيكون حالهم مع أولادهم
كمن قلبه مع علي، فيما سيفه مع اليزيد.
فالهدايا والمعاملة الأفضل للأغراب، أما الأبناء فيهمشون ويمنحون الحب بالقطارة تماماً كالزواج العرفي الذي يمنح فيه الزوج محبته لزوجته في السر، أما في العلن، فلست مني ولست منك، فيعاني الأبناء لعقود من إنعدام الثقة في النفس ومن مشاعر الهوان، الصغار والإضطراب، فبعض الأمهات يجاملن بصغارهن فإن نشب خلاف بين ابنها وابن جارها، انحازت في التو لإبن الجار وشرعت تدعس على ابنها وتدينه دون البحث في سبب الخلاف،فهي تعلم أنها كلما ظلمت صغيرها قيل عنها منصفة ولاقت قبولمن المجتمع الذي يصورها كأم لا تحابي لأبنائها.
-عصارة القول، إن التكسب من السند الديني بتقديس الأباء حق استخدمه باطل، وحبذا لو أعلن أن له استثناء في حالة عقوق الأهل لأولادهم.
وتبقى المشكلة في صعوبة اعتراف الإبن بعقوق أهله له، فهو أشبه بالرجل الذي خانته زوجته، فإن أفصح عن جرمها نالت سمعته من درن فحشها.
بروا ابنائكم حتى يدعوا الابن فيقول” رب ارحمها كما ربياني صغيرا” ولا تبالغوا في الظلم حتى لا يشتكي الى الله فيقول: “ربي اجحمهما كما دمراني صغيرا”.
بقلم: داليا الحديدي
كاتبة مصرية
المزيد
1