في لحظة امتزجت فيها القداسة بالحزن، أطلّ البابا فرنسيس على العالم بكلماته الأخيرة عشية عيد الفصح، ليلقي آخر رسائله إلى البشرية، وذلك قبل وفاته بيوم واحد فقط.
في صباح ذلك اليوم المهيب، وبينما كانت كنيسة القديس بطرس تعج بالمصلّين والمؤمنين، لم يكن البابا، الذي بلغ من العمر 88 عامًا، في وضع يسمح له بترؤس قداس عيد الفصح كما اعتاد دائمًا. فقد أثقلت عليه سنوات المرض، ولا سيما تداعيات إصابته بالتهاب رئوي مزدوج ترك أنفاسه متقطعة وصوته خافتًا. ومع ذلك، أصرّ على الظهور، ولو للحظات، ليمنح الحشود البركة التي طالما انتظروها منه، فخرج إلى الشرفة، بصحبة مساعديه، ليُلقي تحية العيد للمرة الأخيرة.
في لحظة امتزجت فيها القداسة بالحزن، أطلّ البابا فرنسيس على العالم بكلماته الأخيرة عشية عيد الفصح، ليلقي آخر رسائله إلى البشرية، وذلك قبل وفاته بيوم واحد فقط.
في صباح ذلك اليوم المهيب، وبينما كانت كنيسة القديس بطرس تعج بالمصلّين والمؤمنين، لم يكن البابا، الذي بلغ من العمر 88 عامًا، في وضع يسمح له بترؤس قداس عيد الفصح كما اعتاد دائمًا. فقد أثقلت عليه سنوات المرض، ولا سيما تداعيات إصابته بالتهاب رئوي مزدوج ترك أنفاسه متقطعة وصوته خافتًا. ومع ذلك، أصرّ على الظهور، ولو للحظات، ليمنح الحشود البركة التي طالما انتظروها منه، فخرج إلى الشرفة، بصحبة مساعديه، ليُلقي تحية العيد للمرة الأخيرة.
ورغم ضعف صوته وذبول نبراته، تكلّم قائلاً:
“إخوتي وأخواتي الأعزاء، عيد فصح سعيد”.
كلمات بسيطة، لكنها كانت تحمل من العمق ما لا يمكن للكلمات أن تصفه. ومع أن البابا لم يتمكّن من إلقاء رسالته كاملة بنفسه، إلا أن أحد مساعديه قرأها على الملأ، وكانت بمثابة وصية روحية أخيرة، وصرخة أمل في وجه عالم يئنّ تحت وطأة الحروب والانقسامات.
النص الكامل لخطاب البابا فرنسيس الأخير:
المسيح قام! هللويا!
أيها الإخوة والأخوات، في هذا اليوم المجيد، نرفع أنظارنا نحو القبر الفارغ في أورشليم، حيث دوّى صدى البشرى العظيمة: “يسوع المصلوب ليس هنا… لقد قام!” (لوقا ٢٤: ٥)
من هنا تبدأ قصة الأمل. من هنا ينبثق نور لا ينطفئ. فبقيامته من بين الأموات، أعلن المسيح أن الحب أقوى من الحقد، وأن النور أقوى من الظلمة، وأن الغفران أعظم من الانتقام. نعم، الشر لا يزال حاضرًا بيننا، ولم يغادر هذا العالم، لكنه لم يعد المتحكم في المصير، ولم يعد يملك الكلمة الأخيرة.
وفي لحظة صفاء نادرة، وجه البابا كلماته لمن يعيشون تحت وطأة الألم والحزن، قائلاً:
“إن صرختكم لم تذهب سُدى، ودموعكم لم تذهب هباءً، فكل دمعة أُحصيت، وكل ألم قد حُمِل. فبموت المسيح وقيامته، حمل الله عنا خطايانا وأوجاعنا وغسلنا برحمته التي لا تعرف حدودًا.”
“المسيح رجاؤنا قد قام”… ليست مجرد عبارة بل حقيقة تغيّر كل شيء. قيامة يسوع تمنحنا رجاءً لا يخيب، وتدعونا لنكون شهودًا لهذا الرجاء في عالم يفتقر إلى المعنى.
هو رجاء لا يدفعنا للهروب، بل يجعلنا أكثر قدرة على المواجهة. هو لا يَعِدُنا بالراحة، بل يمنحنا القوة للنهوض. من يثق بالله يضع يده الضعيفة في يده القوية، ويبدأ رحلة الرجاء، رحلة نحو نور لا يُطفأ.
في هذه اللحظة الفاصلة، ذكّر البابا العالم بأسره بأننا خُلقنا للحياة لا للموت، وأن العيد هو عيد الانتصار على الفناء. وقال:
“في عيني الله، كل حياة ثمينة، من حياة الجنين في رحم أمه إلى حياة الشيخ الطاعن في السن. لا أحد يستحق أن يُهمل، ولا أحد يجب أن يُعامل كعبء.”
ثم حمل البابا قلبه الجريح وألقى نظرة على جراح هذا العالم، فصرخ في وجه الظلم والموت:
“كم من الحروب ما تزال تشتعل؟ كم من النساء والأطفال يئنّون تحت وطأة العنف في بيوتهم؟ كم من مهاجرٍ يُحتقر، ومن فقيرٍ يُنسى؟”
دعا إلى أن نوسّع قلوبنا لنشمل كل إنسان، بغض النظر عن أصله أو لغته أو عاداته، مؤكدًا أن كل واحد منا هو ابن لله، وأننا لا نُبنى إلا معًا.
وتحوّل حديثه بعدها إلى الأراضي المقدسة، حيث تحتدم المأساة. عبّر عن ألمه العميق لما يعيشه المسيحيون في فلسطين وإسرائيل، وللوضع الإنساني الكارثي في غزة. وناشد بشدة: “أوقفوا إطلاق النار! أطلقوا سراح الرهائن! ساعدوا الجائعين على أن يحلموا بالسلام!”
وامتدّت صلواته إلى شعوب الشرق الأوسط، من لبنان وسوريا، مرورًا باليمن الجريح، فالسودان والكونغو، والقرن الإفريقي، حيث لا يزال العنف ينهش الأجساد والأرواح. وحذّر من معاداة السامية ومن جميع أشكال العنصرية والكراهية التي تتفشى من جديد في عالمٍ منهك.
“لا سلام بلا حرية”، قالها بحزم. حرية الفكر، وحرية الدين، وحرية التعبير، هي أساس التعايش، ودونها يتحوّل السلام إلى وهم.
واستنكر البابا سباق التسلّح، داعيًا إلى نزع السلاح الحقيقي، إلى التضامن لا العزلة، إلى البناء لا التدمير. قال:
“في زمن تُهدر فيه الثروات على الأسلحة، دعونا نستخدم مواردنا لمداواة الجراح، لا لفتح جراح جديدة. دعونا نحارب الجوع، لا نحارب بعضنا البعض.”
ودعا في ختام خطابه إلى تذكّر ميانمار، حيث يختلط الحزن بالصبر، وإلى دعم منكوبي الزلازل، وإلى الإفراج عن أسرى الحروب والسجناء السياسيين.
وفي ختام آخر خطاب له، قال البابا كلماتٍ كانت بمثابة عهده الأخير:
“في سرّ الفصح، تقاتلت الحياة والموت، لكن الحياة انتصرت. والمسيح الحيّ إلى الأبد يمنحنا الرجاء بأن كل شيء يمكن أن يُجدّد. فدعونا نسلّم أنفسنا له، هو القادر على أن يصنع من الرماد جمالًا، ومن الألم قيامة!”
عيد فصح سعيد للجميع!
ماري جندي
المزيد
1