التعليم في الولايات المتحدة وكندا يتميز بطابع لا مركزي يعتمد على سيطرة الولايات أو المقاطعات، وهو نظام ينبع من إيمان عميق بأن القرارات المحلية أكثر قدرة على التكيف مع احتياجات المجتمعات المحلية. ومع ذلك، فإن هذه اللامركزية، ورغم مزاياها، أطلقت نقاشات طويلة حول دور الحكومة الفيدرالية، خاصة منذ إنشاء وزارة التعليم الأمريكية عام 1979 في عهد الرئيس جيمي كارتر.
التعليم في الولايات المتحدة وكندا يتميز بطابع لا مركزي يعتمد على سيطرة الولايات أو المقاطعات، وهو نظام ينبع من إيمان عميق بأن القرارات المحلية أكثر قدرة على التكيف مع احتياجات المجتمعات المحلية. ومع ذلك، فإن هذه اللامركزية، ورغم مزاياها، أطلقت نقاشات طويلة حول دور الحكومة الفيدرالية، خاصة منذ إنشاء وزارة التعليم الأمريكية عام 1979 في عهد الرئيس جيمي كارتر.
الجدل حول وزارة التعليم
منذ إنشائها، أصبحت وزارة التعليم رمزًا للجدل السياسي، حيث دعت الأصوات المحافظة مرارًا إلى إلغائها، مدعية أن الحكومة الفيدرالية يجب ألا تتدخل في السياسات التعليمية التي تظل مسؤولية الولايات. على سبيل المثال، تعهدت إدارة ترامب بإنهاء وزارة التعليم، مشيرة إلى ضرورة استعادة التحكم المحلي الكامل. لكن، كما يظهر، القضية تمتد إلى ما هو أبعد من الجدل حول وجود الوزارة أو غيابها، لتغوص في أعماق الفلسفات التربوية التي شكلت النظام التعليمي الحديث.
فلسفة جون ديوي: إرث دائم
لا يمكن مناقشة التعليم العام في أمريكا الشمالية دون التطرق إلى تأثير جون ديوي، أحد أبرز الفلاسفة التربويين في القرن العشرين. شكّلت أفكار ديوي حول التعليم تجربة دائمة، حيث اعتمدت نظرياته على دمج التعليم مع الحياة العملية، وتوجيه الطلاب نحو التعلم من خلال التجربة والمشاركة الاجتماعية. وكما وصفه المؤرخون، فإن تأثير ديوي على التعليم يشبه تأثير أرسطو على الفلسفة في العصور الوسطى: حاضر في كل مكان.
حتى خارج أمريكا الشمالية، كما في المناهج الوطنية في دول مثل تايلاند، يظهر تأثير ديوي بوضوح، حيث يتمحور التعليم حول التجربة والتعلم التعاوني، مما يعكس الانتشار العالمي لأفكاره.
نقد لاذع: هل أضرت فلسفة ديوي بالصرامة الأكاديمية؟
رغم شعبيته وتأثيره الواسع، لم يسلم ديوي من النقد الشديد. انتقدت هيلدا نيتبي، عالمة الكلاسيكيات الكندية، في كتابها “القليل جداً من أجل العقل” الصادر عام 1953، فلسفة ديوي بوصفها مضرة بالأسس الفكرية للتعليم. ترى نيتبي أن تركيز ديوي على اهتمامات الطلاب ومشاكلهم الشخصية أدى إلى تهميش الانضباط الفكري وجعل من التعليم أداة لتعزيز النزعة الفردية المفرطة.
وبالمثل، اعتبر المؤرخ ريتشارد هوفستاتر أن فلسفة ديوي كان لها تأثير “مدمر” على التعليم. وانتقدت الروائية فلانري أوكونور هذه الأفكار أيضًا، محذرة الآباء من اعتمادها قائلة: “أي شيء يقوله جون ديوي، لا تفعلوه”.
النهج العملي مقابل العمق الأكاديمي
في قلب فلسفة ديوي التعليمية تكمن فكرة أن التعليم يجب أن يكون مرتبطًا بالحياة اليومية والاحتياجات العملية، ما يعني تعزيز الإصلاح الاجتماعي والمهارات المهنية على حساب المواد الكلاسيكية مثل الأدب والتاريخ والفلسفة. رفض ديوي ما أسماه “المعرفة المندرينية”، واعتبر أن النماذج التقليدية التي تركز على المواد الكلاسيكية تفتقر إلى الارتباط بالواقع المعاصر.
لكن هذا التركيز على الحاضر والنمو الشخصي أتى على حساب تطوير الانضباط الفكري. أصبحت الفصول الدراسية، بدلاً من كونها ساحات لتحدي العقول وتطوير التفكير النقدي، أماكن مخصصة للتواصل الاجتماعي والتنمية الشخصية. ومع تصاعد هذا الاتجاه، تراجعت مكانة المواد التي تسهم في بناء مواطنة مستنيرة، مثل التاريخ والفلسفة، لصالح الدراسات الاجتماعية والتعلم القائم على الاهتمامات الفردية.
فقدان الذاكرة التاريخية: تهديد للمواطنة المستنيرة
أدى تركيز ديوي على التعلم التجريبي والقضايا المعاصرة إلى ما وصفه النقاد بفقدان الذاكرة الفكرية. تراجعت أهمية دراسة التاريخ بوصفه أساسًا لفهم الحاضر والمشاركة في بناء المستقبل. كما كتب ديفيد ليفينغستون، أستاذ الدراسات الليبرالية: “رفض ديوي فكرة وجود حقائق دائمة متاحة للتأمل البشري”، مما جعل الفصول الدراسية تتحول إلى أماكن تركز على الاستكشاف الذاتي بدلاً من دراسة التقاليد والأفكار الراسخة.
تأثير ديوي على المعلمين والطلاب
بحسب فلسفة ديوي، لم يعد المعلمون مصدرًا موثوقًا للمعرفة، بل أصبحوا ميسّرين. وأصبح الطلاب، بدلاً من التحدي لاكتساب معرفة واسعة، يسترشدون بشغفهم واهتماماتهم الفردية. وبينما كان هدف ديوي إضفاء الطابع الديمقراطي على التعليم، فإن النتيجة كانت غالبًا تراجعًا في الصرامة الأكاديمية والفكرية.
إعادة التفكير في التعليم: هل من مخرج؟
في عالم تزداد فيه التحديات الفكرية والسياسية، يتطلب الأمر إعادة تقييم جذرية للفلسفات التربوية التي توجه الأنظمة التعليمية. وكما لاحظ الرئيس دوايت أيزنهاور، يجب على المعلمين والآباء والطلاب “التخلي عن المسار التعليمي الذي اتبعوه بشكل أعمى بسبب تعاليم جون ديوي”.
من خلال استعادة التركيز على التقاليد الأكاديمية والانضباط الفكري، يمكن للأنظمة التعليمية في أمريكا الشمالية أن تتصدى للتحديات المستقبلية. إن إعادة النظر في المبادئ التي يقوم عليها التعليم وإعادة الاعتبار لدراسة التاريخ والفلسفة ليست مجرد ضرورة أكاديمية، بل هي أيضًا حاجة ديمقراطية لضمان إعداد أجيال قادرة على التفكير النقدي والتفاعل البناء مع العالم.
خلاصة
إن إرث جون ديوي، رغم أهميته التاريخية، أثار تساؤلات جوهرية حول توازن التعليم بين المهارات العملية والصرامة الفكرية. وبينما تظل فلسفته جزءًا لا يتجزأ من النظام التعليمي الحديث، فإن الوقت قد حان لإعادة النظر فيها، بهدف بناء نظام تعليمي يجمع بين التعلم العملي والعمق الفكري، لتأهيل الطلاب لمواجهة تحديات العصر بوعي واستنارة.
ماري جندي
المزيد
1