في السنوات الأخيرة، أصبح من المألوف – بل والمتوقع في كثير من الأحيان – أن تُدرِّس المدارس للأطفال أن الهوية الجنسية لا ترتبط بالضرورة بالجنس البيولوجي، وأن الصبي يمكن أن يولد في جسد فتاة، والعكس صحيح. هذه الفكرة، التي بدت غريبة على الأجيال السابقة، أصبحت اليوم جزءًا أساسيًا من مناهج التعليم في المدارس العامة. ولكن كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وما الذي يمكن فعله لمواجهة هذا الاتجاه؟
في السنوات الأخيرة، أصبح من المألوف – بل والمتوقع في كثير من الأحيان – أن تُدرِّس المدارس للأطفال أن الهوية الجنسية لا ترتبط بالضرورة بالجنس البيولوجي، وأن الصبي يمكن أن يولد في جسد فتاة، والعكس صحيح. هذه الفكرة، التي بدت غريبة على الأجيال السابقة، أصبحت اليوم جزءًا أساسيًا من مناهج التعليم في المدارس العامة. ولكن كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وما الذي يمكن فعله لمواجهة هذا الاتجاه؟
كيف تسللت أيديولوجية النوع الاجتماعي إلى النظام التعليمي؟
يرى جون سيكما، المحامي والمدير القانوني لجمعية العمل السياسي الإصلاحي (ARPA)، أن هيمنة هذه الأيديولوجية لم تبدأ في المدارس فجأة، بل كان لها جذور تمتد لعقود. فقد بدأت في الجامعات وكليات إعداد المعلمين قبل أن يتم تضمين “الهوية الجنسية” في قوانين حقوق الإنسان والتعليم في كندا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وما إن تم تقنينها، حتى شقت طريقها إلى النظام التعليمي بأكمله، حيث أصبحت جزءًا لا يتجزأ من السياسات والممارسات التعليمية. ولم يواجه هذا التوجه أي مقاومة سياسية حقيقية حتى عام 2023، حين بدأت بعض المقاطعات الكندية باتخاذ خطوات لمناهضته.
كيف تفسر أيديولوجية النوع الاجتماعي الهوية الجنسية؟
وفقًا لهذه الأيديولوجية، فإن الهوية الجنسية هي إحساس داخلي للفرد بكونه ذكرًا أو أنثى أو حتى كليهما أو لا شيء منهما. وتُقدَّم الهوية الجنسية على أنها منفصلة عن الجنس البيولوجي، بل وتتفوق عليه في تحديد هوية الشخص. ووفقًا لهذا المفهوم، فإن الجنس البيولوجي ليس سوى تصنيف يُحدَّد عند الولادة ويمكن تغييره لاحقًا من خلال العلاجات الهرمونية أو الجراحة. واللافت في الأمر هو التناقض الواضح في هذا الطرح: ففي الوقت الذي يُشجَّع فيه الأفراد على “أن يكونوا على طبيعتهم”، قد يُطلب منهم في الواقع إجراء تعديلات طبية كبيرة على أجسادهم السليمة لتحقيق ذلك.
بداية المقاومة: نيو برونزويك وساسكاتشوان في المقدمة
جاءت أولى بوادر المقاومة في يونيو 2023، عندما أعلنت حكومة نيو برونزويك أنها لن تسمح للمدارس العامة بإجراء أي “تحول اجتماعي” للطفل – كاستخدام اسم جديد أو ضمائر مختلفة – دون الحصول على إذن الوالدين. هذه الخطوة أثارت ردود فعل قوية في الأوساط التقدمية في جميع أنحاء كندا، لدرجة أن رئيس الوزراء جاستن ترودو وصف القرار بأنه “هجوم يميني متطرف” يهدف إلى “فرض القسوة والعزلة” على الأطفال الضعفاء.
لكن رغم الانتقادات، سارعت مقاطعة ساسكاتشوان إلى اتخاذ خطوة مماثلة، حيث منعت المدارس من استخدام أسماء أو ضمائر جديدة للطلاب الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا دون موافقة والديهم. وعندما حاول القضاء عرقلة هذا القرار من خلال إصدار أمر قضائي، ردت الحكومة بإجراء تعديلات على قانون التعليم لتعزيز دور الوالدين باعتبارهم أصحاب القرار الأساسي فيما يتعلق بتعليم أطفالهم. ولم تكتفِ بذلك، بل لجأت إلى استخدام “بند الاستثناء” في ميثاق الحقوق والحريات لضمان عدم إلغاء القرار قضائيًا.
ألبرتا تأخذ المقاومة إلى مستوى جديد
في عام 2024، صعدت ألبرتا المواجهة مع أيديولوجية النوع الاجتماعي إلى مستوى غير مسبوق. إلى جانب فرض شرط موافقة الوالدين على أي تحول اجتماعي للأطفال، سنّت حكومة ألبرتا قوانين جديدة تشمل:
إلزام الآباء بالموافقة على حضور أطفالهم دروسًا تتعلق بالجنس أو الهوية الجنسية.
اشتراط الحصول على إذن من وزير التعليم قبل السماح لأي جهة خارجية بتقديم محاضرات حول هذه الموضوعات في المدارس.
حظر علاجات البلوغ والهرمونات البديلة للأطفال دون سن 16 عامًا، بالإضافة إلى حظر جميع العمليات الجراحية “لتأكيد النوع الاجتماعي” للقاصرين.
حماية الرياضات النسائية من مشاركة الذكور المتحولين جنسيًا.
معركة قضائية تلوح في الأفق
كما كان متوقعًا، لم تمر هذه الإجراءات دون معارضة قانونية. فقد كانت جمعية الحريات المدنية الكندية من أوائل الجهات التي رفعت دعاوى قضائية ضد سياسات نيو برونزويك، متذرعة بأن هذه القوانين تقيد حقوق الأطفال وتحرمهم من الحماية القانونية. والمفارقة هنا أن هذه الجمعية، التي خاضت معارك قانونية خلال الثمانينيات والتسعينيات لإزالة التعليم الديني من المدارس العامة، أصبحت الآن تدافع عن فرض أيديولوجية الهوية الجنسية على الطلاب، بغض النظر عن اعتراضات أولياء الأمور.
وفي هذا السياق، يشير سيكما إلى أن السياسات التي تجعل المدارس أكثر شفافية أمام الآباء لا تتعارض مع الحريات المدنية، بل على العكس، تعززها. فالمجتمع الحر يعتمد على وجود مؤسسات اجتماعية قوية، وعلى رأسها الأسرة، لضمان استمراره. لذا، فإن السماح للحكومة بفرض أيديولوجيتها على الأطفال دون علم أو موافقة الوالدين هو انتهاك صارخ لهذا المبدأ.
جذور الأزمة وسبل المواجهة
يرى إريك كوفمان، في كتابه الصادر عام 2024 بعنوان “الصحوة الثالثة: خطة من 12 نقطة لدحر التطرف التقدمي”، أن العالم الغربي ربما يكون قد تجاوز “ذروة الصحوة التقدمية”، لكن الأيديولوجيا لا تزال متجذرة بقوة في المؤسسات العامة. ويحذر من أن الأجيال الشابة التي نشأت في ظل هذه المؤسسات أصبحت أكثر وعياً وتأثراً بهذه الأفكار من الأجيال السابقة.
ولذلك، يدعو كوفمان القادة المحافظين إلى اتخاذ خطوات جذرية لإصلاح المؤسسات التعليمية، والتأكد من أنها لا تُستخدم كأدوات لنشر أيديولوجيات بعينها. وهذا يعني أن الاقتصار على منح الآباء بعض الخيارات في مواجهة هذه الأفكار ليس كافيًا. بل يجب اقتلاع هذه الأيديولوجيا السامة من جذورها في النظام التعليمي.
الخلاصة: معركة لم تُحسم بعد
رغم التحركات الأخيرة في نيو برونزويك وساسكاتشوان وألبرتا، لا يزال هناك طريق طويل أمام مناهضي أيديولوجية النوع الاجتماعي في المدارس العامة في كندا. فبينما تحاول الحكومات الإقليمية تعزيز دور الوالدين في اتخاذ القرارات المتعلقة بأطفالهم، تواجه مقاومة شرسة من الجماعات التقدمية التي تسعى إلى جعل هذه الأيديولوجية جزءًا أساسيًا من التعليم.
إن الصراع حول أيديولوجية النوع الاجتماعي في المدارس ليس مجرد معركة سياسية، بل هو صراع أعمق حول دور الأسرة، وحدود سلطة الدولة، وحق الأطفال في التعليم بعيدًا عن التلقين الأيديولوجي. وما سيحدث في كندا خلال السنوات القادمة سيحدد إلى أي مدى يمكن للآباء استعادة السيطرة على تعليم أبنائهم، وإلى أي مدى ستتمكن الحكومات من فرض رؤيتها الأيديولوجية على الأجيال القادمة.
ماري جندي
المزيد
1