لماذا نجد أنفسنا آحياناً نفعل أشياءً نعرف يقيناً انها مضرة لنا ولمن نحبهم وكلما قررنا الامتناع عنها، فشلنا وازداد احساسنا بالخزي والضعف مع كل محاولة؟ أحدهم يقسم انه يحب زوجته ولكنه لا يستطيع التوقف عن خيانتها او يشهد بجمالها ومعه كل الناس ولكن لا يفهم لماذا لا يستطيع التوقف عن مشاهدة الأفلام الإباحية برغم الحزن الذي يسببه لها وله سلوكه. وآخر يشجب إدمان الكحوليات ،ولكن لا يتحمل فكرة الابتعاد عن علبة سجائر وقد يصير عدوانيا ومؤذياً للآخرين إذا اضطر أن يمتنع عن التدخين لسبب او لآخر. هل يوجد بداخل كل منا عدة أشخاص لهم نوايا ورغبات متصارعة؟
هذا يقسم أنه يحب زوجته ويشهد بجمالها ولكنه لا يستطيع التوقف عن مشاهدة الأفلام الإباحية. وهذا يشجب تناول المخدرات والخمور ولكنه لا يتحمل فكرة الابتعاد عن علبة سجائره وقد يصير عدوانيا ومؤذياً للآخرين إذا اضطر أن يمتنع عن التدخين لسبب أو لآخر!
لماذا البعض منا يستمر في نهج سلوكيات يعرف يقيناً انها مضرة؟ لماذا كلما قرروا الامتناع عنها، فشلوا وازداد الاحساس بالخزي والضعف مع كل محاولة؟ هل يوجد بداخل كل منا عدة اشخاص لهم نوايا ورغبات متصارعة؟ شخص يحب الله ويشتاق لإرضائه وللعودة اليه(الروح)، وشخص يُحكِم الأدلة ليميز الخير من الشر(العقل)، وشخص يسعي وراء المتعة ويضعف امام مغريات الحياة (الجسد)، وشخص يبحث عن الأمان والحب في نظرات وتصرفات الآخرين تجاهه(القلب)؟ وشخص يحتاج إلى الأضواء لكي يشعر بأهميته (الأنا)؟
كيف تعرف أي شخص منهم أنت؟ ومن يجب أن يكون الحاكم علي هذه المجموعة العجيبة التي لا تكف عن الجدل وتبادل الاتهامات؟ وهل نفقد هويتنا الحقيقية ونصبح مساقين عندما يقود مقاليد الحكم علينا أضعف الأشخاص داخلنا وأقلهم حكمة؟ والسؤال الأهم، كيف نثور ضد الحاكم الاحمق ونعيده الي صفوف المجموعة ليقوم بالدور الذي يناسبه فيها؟ كلنا نعاني من هذا الصراع الداخلي منذ الازل. في حالة الإدمان، ومع للأسف، لا تنتصر الروح ولا يحكم العقل ولا يحسم هذا الصراع لصالح المريض. في السطور القادمة، أشرح أبعاد الإدمان وأشكاله وكيفية التغلب عليه.
الإدمان كما عرفناه من عشرين عاماً:
أتذكر عندما كنت طفلة كيف كانت وسائل الاعلام تحذر من خطورة الإدمان وكيف كانت آنذاك تقتصره على الكحوليات والمخدرات وكيف ان أسباب الإدمان كما فهمناها وقتها كانت اما مرتبطة بصحبة سيئة او خدعة من شخص او مجموعة لشخص اخر بدون علمه كوضع شيء في شرابه او أدوات التجميل التي يستخدمها وما الي ذلك. وبرغم ان السينما المصرية في منصق القرن الماضي قد استعرضت عادة المقامرة وأثارها السيئة علي حياة المقامر وكيف أنه يصبح محاطاً بالذل والعار نتيجتها، إلا أن مصطلح الإدمان ظل يقترن بالمواد المخدرة فقط وليس بالمقامرة أو غيرها من السلوكيات القهرية المضرة بحياة الانسان بشكل مباشر.
المفهوم الحديث للإدمان:
الإدمان هو خلل في المخ يتسم بسلوك قهري مرتبط بمحفزات نظام المكافآت وافراز مادة الدوبامين بغرض الحصول على الإحساس باللذة و/ او التخلص من التوتر والألم النفسي من خلال انتاج دفعة سريعة وعالية من هذه المادة. لذلك فان أي من الأنشطة المقبولة اجتماعيا التي يحصل بها المخ على هذه المادة، كالألعاب الالكترونية والطعام وشبكات التواصل الاجتماعي والتسوق قد تتحول الي ادمان في حالة الافراط في استخدامها أو توافر ابعاداً معينة اخري لدي مستخدمها.
البعد البيولوجي (المخ)
يحتوي دماغ الإنسان على ثلاث مسارات رئيسية لتوصيل ما يعرف بمادة الدوبامين وهي “مسارات المكافأة” الخاصة بنا والمسؤولة عن الشعور بالمتعة او الارتياح عند تناول طعام شهي او عند ممارسة الجنس او على سبيل المثال.
في حالة الإدمان، تتحول هذه المسارات للاعتماد بشكل غير متوازن وقهري على محفز في حد ذاته كالمقامرة، الهواتف الحديثة، الجنس وما الي ذلك ويتوقع المخ لحصول على دفعة عالية ومفاجئة من مادة الشعور باللذة (الدوبامين) فور البدء في تناول مادة او طعام معين او ممارسة عادة ما ثم يليها سقوط حاد في نسبته ليشعر بعدها المدمن بالحزن والندم. وأحيانا يكون هناك خللا وراثياً في كيمياء المخ ينتج عنه خلل طبيعي في افراز هذه المادة وبذلك يكون عند بعض المرضي استعداداً وراثياً للإدمان.
البعد السلوكي (الجسد)
كما نعرف من خلال نظرية السلوك الشرطي ان المخ يقوم بالربط بين سلوك معين والاحساس الملازم له باللذة ثم يبدأ في تحفيز الشخص على اتباع هذا السلوك بشكل منتظم حتى يحصل علي المتعة المتوقعة منه. وكلما انتظم السلوك وأصبح عادة، يزداد اعتماد المخ على هذه العادة للحصول على احتياجه من الدوبامين وتزداد مع الممارسة حدة وتواتر السلوك حتي يصبح اضطراريا وضد رغبة المريض نفسه ومن ثَمٌ يصير ادماناً.
الخبر السعيد هنا هو ان البعد السلوكي من الادمان يمكن علاجه عن طريق التقليل التدريجي او المفاجئ من السلوك القهري وبالتالي يتوقف المخ عن توقع اللذة والتحريض على السعي تجاهها. ولكن في كثير من حالات الإدمان يكون هناك سببا نفسياً للوقوع في الإدمان وفي تلك الحالة التدريب السلوكي وحده لا يكفي على المدي البعيد وذلك ما سأناقشه في النقطة التالية.
البعد النفسي(القلب):
الكثير من حالات الإدمان لا تنجح على المدي البعيد باستخدام التدريب السلوكي وحده، وذلك لأن البعد النفسي عند هؤلاء هو السبب الأقوى والاعمق للمشكلة. هؤلاء المرضي كانوا ضحايا اذي نفسي و/أو جسدي في مرحلة الطفولة من داخل الاسرة او خارجها. لذلك، هم مؤهلون للإدمان كنتيجة مترتبة على اضطراب أنشطة المخ وبعض مواده والمرتبطة اساساً بفقدان البيئة الصحية والآمنة لنشأة ونمو الطفل، وبالتالي يفتقرون القدرة على تنظيم مشاعر الرضا والامل والحافز للحياة وقد يبحثون عن طرق ضارة لتعويض النقص. هؤلاء الأشخاص حال شفاءهم من ادمان من نوع ما، سريعا ما يصيبون بإدمان من نوع اخر. فمثلا قد يتخلص المريض من ادمان الطعام ثم سريعا ما يصبح معتمدا على الكحول او التسوق وتبدأ بذلك حلقة جديدة من حلقات الإدمان وما يترتب عليه من الام نفسية ومشكلات اسرية ومهنية. لذلك، حتى يتم الشفاء الجذري وضمان عدم وقوعهم في شكل آخر من أشكال الإدمان بعد الشفاء، يجب توفير العلاج النفسي لهم بجانب التدريب السلوكي.
البعد الاجتماعي(الأنا)
البعد الاجتماعي يشير إلي دور الثقافة المجتمعية او الدائرة الاجتماعية التي ينتمي لها كل شخص منا. وبما أننا مخلوقات اجتماعية فنحن نشعر بالتحفيز حين ننال رضا المجموعة (الضغط الاجتماعي للرفاق)، ونتبع الثقافة المجتمعية لنصبح مقبولين من الآخرين. وهنا تكمن كارثتنا الكبرى اليوم لأننا اجتماعيا قد تقبلنا سلوكيات جديدة رأيناها مفيدة ثم بدأت تتضح انها لها نفس ديناميكية المواد والأنشطة المسببة للإدمان في حال إساءة الاستخدام. للأسف الشديد، فقد توصلت الأبحاث الحديثة ان الهواتف الذكية ونظام التفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي، في حال الافراط، قد يكون لها تأثير مشابه للكوكايين على المخ وان كان اقل حدة. نحن بدأنا بدون ان نعي، توقع الحصول على دفعة عالية وسريعة من الدوبامين من تفاعلنا الالكتروني وقد نشعر بالهبوط الحاد في نسبته حال خيبة توقعاتنا او ابتعادنا عن هواتفنا لفترة طويلة. لقد أصبحنا نتجاهل عائلتنا وواجبتنا لننتبه اليها أحياناً وترك بعضنا أطفاله معها بالساعات وبلا رقابة وبذلك أصبحوا في خطر مواجهة ادمان من نوع جديد. حتى من يحاول المقاومة منا، غالباً ما يضطر للخضوع تحت الضغط المجتمعي على اطفاله في المدرسة والنادي.
البعد الروحي(الايمان)
لا شك أن ضعف الجانب الروحي يشكل سبباً مهماً لمشكلة الإدمان. سواء كان العامل الرئيسي للادمان اجتماعياً او كان نفسياً في الأساس او بيولوجياً او كل هذه العوامل معاً، فان سيادة الروح على الجسد والقلب والعقل والأنا هي الطريق الجذري للشفاء. صحيح ان كل العوامل السابق ذكرها تشكل عبئاً كبيراً على المريض وصحيح انها تحتاج وقت وإصرار وعلاج متعدد الأبعاد، الا أن القرب من الله وتجديد العهد معه، يمنح القوة لخوض هذه المعركة الشرسة. فعندما نتذكر أن لا سلطة لصوت داخلنا أعلي من صوت روح الله الكريمة فينا، فقد قطعنا نصف الطريق حتماً. إن اليقين ان هويتنا تبقي في علاقتنا الروحية مع الله مهما كبرت زلاتنا، يشفي الكثير من آلام النفس التي ربما لا يستطيع العلاج النفسي الطبي وحده مداوتها. إن الايمان بمحبة الله ومعرفته بضعفنا وتسامحه معنا، يسمح لنا ان نسامح أنفسنا في حال حدوث انتكاسة اثناء رحلة التعافي.
لقراءة المزيد او حجز استشارة خاصة، تفضلوا بزيارة موقعي: https://www.amiraissa.net
بقلم: أميرة عيسى
اختصاصية تعديل سلوك وصحة نفسية
كاتب المقال يعبر عن وجهة نظره الشخصية وليس بالضرورة يعكس رأي الجريدة
https://www.amiraissa.net/?fbclid=IwAR1hqK5WwINffOQH2j4aS6xxeqU9GBgDAMr6Plh0Thy7Y7mvbSWVZauRpu0
المزيد
1